إلى جانب النقاش حول تغير المناخ وعدم المساواة الاجتماعية وانقراض الأنواع البيولوجية ورقمنة جميع مجالات الحياة، تعتبر عملية رسم حدود العالم متعدد الأقطاب الذي نشرف عليه، ودور الصين فيه بشكل خاص، تحدّياً معقداً. ذلك لأنّ العالم أصبح اليوم يقوم على أعمدة أربعة: التقلب، عدم اليقين، التعقيد، الغموض. وأصبحت الإجابة على السؤال الكبير عن دور الصين في السياسة المستقبلية ملحّة. تقدّم المقالة التالية نظرة عامّة حول العديد من القضايا المتعلقة بالصّين مع إضافة الجوانب التاريخية والثقافية والاقتصادية.
الشرق، الغرب و'الخطر الأصفر'"."
إلى جانب النقاش حول تغير المناخ وعدم المساواة الاجتماعية وانقراض الأنواع البيولوجية ورقمنة جميع مجالات الحياة، تعتبر عملية رسم حدود العالم متعدد الأقطاب الذي نشرف عليه، ودور الصين فيه بشكل خاص، تحدّياً معقداً. ذلك لأنّ العالم أصبح اليوم يقوم على أعمدة أربعة: التقلب، عدم اليقين، التعقيد، الغموض. وأصبحت الإجابة على السؤال الكبير عن دور الصين في السياسة المستقبلية ملحّة. تقدّم المقالة التالية نظرة عامّة حول العديد من القضايا المتعلقة بالصّين مع إضافة الجوانب التاريخية والثقافية والاقتصادية.
مقدمة: هل التاريخ يتكرر؟
هل التاريخ يتكرر؟ لا، أنا لا أعتقد ذلك. لكن بدون معرفة التاريخ، يمكن للناس أن يرتكبوا نفس الأخطاء مراراً وتكراراً، بحيث يتبع التاريخ نفس أنماط الأحداث التي تكررت من قبل. ومع ذلك، فإنّ معرفة التاريخ ليس ضماناً لمستقبل أكثر إشراقاً أو توقعات مستقبلية دقيقة. في الواقع، يمكن أن تعطي قراءةُ كتابٍ قديم رؤىً مثيرةً للاهتمام حول عقليات مجتمعات الماضي والحاضر أيضاً. حين يتطابق الزمانان فإنّهما يكونان قد انتهكا قانون التغيير عند هيراقليطس (فيلسوف يوناني أيوني ما قبل سقراط) الذي يقول فيه "كلّ شيء يتغير ولا يبقى شيء!"، لقد تجاهلوا أيضاً المثل الصيني: "من لا يتغير لم يعِش"، ولم يسمعوا مطلقاً عن ونستون تشرشل الذي يقول:" التحسين يعني التغيير، لذا فإنّ كونك مثالياً يعني أنك تغير كثيراً". يمكن بالتأكيد اعتبار القدرة على التغيير بمثابة سمة مميزة للحياة، وعلامة على مستوى تطور المجتمع وكصفة إيجابية للقدرة على البقاء في المستقبل. قال ميخائيل جورباتشوف، الأمين العام للاتحاد السوفياتي السابق،ص والمعروف بسياسته في الجلاسنوست والبيريسترويكا التي كانت سبب سقوط جدار برلين ونهاية الكتلة الشرقية، لإريك هونيكر، الأمين العام الأخير للوحدة الاشتراكية أي ألمانيا الشرقية): "أعتقد أن المخاطر تكمن في أولئك الذين لا يتفاعلون مع الحياة". لقد كان محقاً. بعد أيّام انهارت ألمانيا الشرقية. يؤكّد مثل صيني آخر: "عندما تهبّ رياح التغيير، يبني البعض الجدران، والبعض الآخر طواحين الهواء". اسأل نفسك، هل أنت حائط أم طاحونة؟ بالمعنى الواسع، فإن بناء الجدران يعني العزلة، والخوف، وعدم الثقة، وفي النهاية التراجع. الوقت يغير كل شيء. "الناس لا يقاومون التغيُّر. إنهم يقاومون قيام أحد بتغييرهم" يقول عالم الأنظمة والمحاضر في معهد إم آي تي بيتر سينج. التغيير يحتاج إلى بعض الوقت، "يقولون دائمًا أن الوقت يغير الأشياء، ولكن عليك في الواقع تغييرها بنفسك" يؤكّد الفنان الأميركي آندي وارهول. التغيير والمسؤولية الشخصية لا ينفصلان مثل التوائم السيامية. هل التاريخ يتكرر؟ يعتمد ذلك على ما إذا كانت هناك أي تغييرات في السلوك. ماذا عنك؟ ماذا عن الصين؟ حسنًا، لا أعرف شيئًا عنك، لكن التاريخ بالنسبة للصين يعيد نفسه.
رؤى وتوقعات تاريخية
في عام 1962، كتب المؤرخ الألماني هاينز غولويتسر كتاباً بعنوان "الخطر الأصفر - تاريخ كلمة مشهورة ودراسات حول التفكير الإمبريالي". اشتريت هذا الكتاب من سوق للسلع الرخيصة والمستعملة وفوجئت بشكل لا يصدق عندما قرأت الأسطر التالية في الصفحة 20/21 (لقد حاولت ترجمة هذه السطور). يرجى تذكر أن هذا الكتاب عمره 60 عاماً. الخطر الأصفر - بالتأكيد كلمة طنّانة، من ناحية أخرى هي صياغة لا يمكن فصلها عن خلفية التطورات السياسية العالمية والتاريخية العالمية.. تم فهم الخطر الأصفر على أنه تهديد الصينيين أو اليابانيين، أو كليهما معاً ضدّ الشعوب البيضاء. تمّ النظر إلى طبيعة التهديد بشكل مختلف. في وقت من الأوقات، كان العمال ذوو الياقات البيضاء يخشون من المنافسة الحمقاء، التي يقوّضها العمال الرخيصون مع الحد الأدنى من مستويات المعيشة. من ناحية أخرى، أخافَ اقتصادُ أوروبا وأميركا الإنتاجَ الياباني ونجاحَه..
ثالثاً، مستقبلُ التحرّر السياسي الكامل للأمم الصفراء العظيمة التي تتقدّم اليوم بأسلحة حديثة وبسبب تفوّقها العددي، هو إزالة الأوروبيين والأمريكيين من شرق آسيا وتحقيق الهيمنة على آسيا وربما - في النهاية - الهيمنة على العالم. هذا الأمر ارتبط بفكرة التسلّل الصيني ليس فقط من قبل المزارعين والمستوطنين الصفر في المناطق التي كان يسيطر عليها البيض سابقاً.. فإذا درس المرء العلاقة السياسية والعسكرية بين الأوروبيين والأمريكيين من ناحية، والصينيين واليابانيين من ناحية أخرى، وحتى العلاقات الروسية اليابانية وحرب 1904/05، سيكون من الصعب التحدث عن تهديد للبيض ككلّ. بل هو بالأحرى العكس! لقد أدّت الروح التجارية وإمبريالية "الغرب" لاحقاً إلى فتح عالم الشرق الأقصى المغلق وفرض إرادة العالم الأبيض عليه بشكل متكرر. ولكن فيما يتعلق بالصين، فإنها لم تعانِ مع قوّة بيضاء مثلما عانت مع اليابان "الصفراء". لكنّ التعديات اليابانية سبقها ابتزاز واعتداءات وكل أنواع التدخّل من قبل القوى الأوروبية. لم يكن من دون سبب أن صان يات صان [1866-1925، أول رئيس لجمهورية الصين وأول زعيم لحزب الكومينتانغ (الحزب القومي الصيني) والمشار إليه بأب الأمة] كان يرى أنّ الصين الإمبراطورية كانت "مستعمرة كبيرة" ، أي في حالة سيادة ظاهرة، ولكنّها لم تكن محكومة ومستغلة من قبل قوّة أجنبية واحدة، بل من عدّة قوى أجنبية، مثل المستعمرات الأخرى، ولا تزال تحت الوضع الاستعماري".
حسناً، لا أحد يستخدم مصطلح "الخطر الأصفر" في الوقت الحاضر، لأنّه مصطلح عنصري ومهين للناس. لكن بشكل عام، يعبّر الجزء الأول عن نفس مخاوف السياسيين والصحفيين في العالم الغربي في هذه الأيام.
هل هذه المخاوف مبررة؟ هل تهيمن الصين على العالم وتصبح القوة العظمى التالية؟ وكيف سيكون ردّ فعل أوروبا (خاصة ألمانيا)؟ ماذا عن الأمريكيين؟ ماذا عن الروس؟ ماذا عن العلاقة بينهما؟ على الأقل، يشير هذا النص الذي يبلغ من العمر 60 عاماً إلى حقيقة أن ظهور التحدّي الصيني لم يحصل بين عشية وضحاها. إنّه موجود منذ عقود عديدة. والجزء الثاني يشير إلى الموقف المحتمل للصين تجاه الدول الأخرى. عادة، تعود الذاكرة الاجتماعية والجماعية للمجتمع إلى عدة قرون. بناءً على التجربة التاريخية، هل هناك بوادر عداء تجاه الدول الأجنبية في الوقت الحاضر؟ هل هناك مؤشرات أخرى في تاريخ الصين وثقافتها يمكن اعتبارها حزمة أولى من الإجابات على أسئلتنا؟
يحصر العديد من المعلقين الغربيين رؤيته للعقود الماضية على أنّها تراجع في الهيمنة على الصين وثغرة في السيادة الغربية (الأمريكية). لقد سلّطوا الضوء على القوة العالمية الصينية من خلال تطبيق تفوقهم الثقافي والعسكري والعلمي. وفي الواقع، يمكن إعطاء مثال لا يعطي معنىً لهذا التفوق فحسب، بل يشكك أيضاً في الافتراض الغربي لفكرة غزو العالم ويحدث هزةّ في النظرة العالمية المتمركزة حول الغرب.
يوصّف المنظور الغربي الإستكشافات البرتغالية في المحيط الهندي في القرن السادس عشر على أنها منعطف تاريخي. ومع ذلك، كان الصينيون حرفياً هم من بنى أسطولاً بحرياً في أوائل القرن الخامس عشر في غضون عامين. أمر الإمبراطور الصيني يونجل ببناء الأسطول في عام 1403 وبعد عامين فقط أبحر هذا الأسطول بقيادة تشنغ خه. انطلقت 600 سفينة وطاقم من 20000 رجل (بحارة وجنود ومسؤولون وأطباء وفنيون) في اتجاه شرق إفريقيا وعدن وهرمز. في ذروة القوة البحرية، كان يضمّ الأسطول الصيني ما يصل إلى 35000 سفينة. للمقارنة فقط: اليوم يبلغ العدد الإجمالي لسفن البحرية الأمريكية حوالي 450. في ذلك الوقت، كانت أطول سفينة في الأسطول الصيني حوالي 120 متراً. كان طول سفينة سانتا ماريا، التي اكتشف بها كريستوفر كولومبوس التي أمريكا، حوالي 19 متراً. وفقاً لأحد التوصيفات، قد يكون للسفينة الصينية عدة طوابق بالداخل، حتى تسعة صواري، واثني عشر شراعاً، وكبائن فاخرة وشرفات، مع طاقم يصل إلى 1500 رجل. في رحلة واحدة، أبحرت 317 من هذه السفن في الحال. في عام 1588، كانت الأسطول الأسباني بأجمعه يتكون من 130 سفينة.
في الطريق، عندما اكتشف البرتغاليون المحيط الهندي، سمعوا عن هذا الأسطول الصيني العملاق من خلال الاستماع إلى قصص السكان الأصليين في إفريقيا والهند. كانت هذه بداية رمز "الخطر الأصفر". بالتأكيد، هناك سؤال محدد بالضبط الآن. لماذا لم يحقق الصينيون السيادة البحرية العالمية؟
حسنًا، منذ حوالي 600 عام، تم التخلي عن الأسطول بناءً على دعوة النخبة السياسية خدمةً للإمبراطور لأنهم كانوا قلقين بشأن صعود طبقة التجار الأثرياء حديثاً. كتب أنجوس ديتون، الحائز على جائزة نوبل والاقتصادي من جامعة برينستون: "حُكّام الصين قلقون بشأن تهديد التجار لسلطاتهم، فقد منعوا الرحلات البحرية في عام 1430، لذا كان استكشاف الأدميرال تشنغ خه نهاية وليس بداية". بعبارة أخرى، عملت الصين بطريقة غير تقليدية لقتل الذات. في الوقت الحاضر نحن ندرك تماماً الأثر الكبير والنطاق الواسع لهذا الفعل. لقد كان سياقه التفاعل بين انفتاح البلد والجغرافيا والرأسمالية والتنمية الاجتماعية.
بمقارنة الظروف الجغرافية لأوروبا الغربية والصين، يتعين على المرء أن يبادر للقول: "والفائز هو أوروبا الغربية". في الواقع كان على كولومبوس أن يسافر نصف المسافة التي كان يتعيّن على الصينيين القيام بها للعثور على أرض غير مكتشفة (فقط قارن حجم المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ)، هذا بالإضافة إلى التيارات المحيطية المفيدة والرياح التجارية والتي شكلت بشكل واضح نقطة إيجابية للأوروبيين ودفعاً قوياً ليسبقوا الصينيين. هنا مثال آخر: سافر ماركو بولو، تاجر ومستكشف وكاتب من البندقية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، إلى الصين، وعاد بإفادة بأنّ التنمية الاجتماعية في الشرق كانت أعلى بكثير مما كانت عليه في الغرب. أيضاً، في هذا الوقت، تحوّلت القناعة لدى الغرب بالتفوق إلى غطرسة بأنه لم يعد بحاجة إلى السفر للقيام بأعمال تجارية. إذا أراد قوم ما التجارة معه، فسيتعيّن على هؤلاء القدوم إليه. وهذا أيضاً تناقض مثير للاهتمام: بينما كان الأباطرة الصينيون يعيشون باستقرار كبير ويهتم بهم جيش من الوزراء، كان على الملوك الألمان تطوير مفهوم الملكية المتجولة.
بسبب العزلة المختارة ذاتياً وحظر السفر المفروض ذاتياً، تمكن الغرب من تطوير نظام اقتصادي يسمى الرأسمالية، والذي عزز التنمية الاجتماعية إلى جانب السيادة على النظام الاقتصادي العالمي من وجهة نظر أيديولوجية وثقافية ونقدية مالية. هناك توصيفات مختلفة حول مصطلح القوة في العلوم السياسية. روجت سوزان سترينج لمفهومها التطلعي للقوة الهيكلية في القرن العشرين، ووفقًا لـ سترينج، فإن "شخصاً ما يمتلك القوة إذا كان يمكنه أو يمكنها أن يحكم ويسيطر على بنىً مثل المعرفة والثقافة والاقتصاد". فوّتت الصين فرصتها للبقاء في الصدارة. في مكان ما بين 1750 و 1800 حدث ما لا مفر منه، لقد طغى العالم الغربي على الصين فيما يتعلق بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية. يومها بدأ انحدار العالم الشرقي، ويتحمّل الإنسحاب الصيني مسؤولية كبيرة في ذلك.
*ترجمة هادي حطيط
Related Posts
كاتب وباحث ألماني